إقامة الحجة على الناس بالرسل
نحن إذن نستطيع أن نرد على المعتزلة بالتفريق بين الإرادتين؛ الإرادة الشرعية والإرادة الكونية؛ فإن المعتزلة يظنون أنهم بنفي القدر ينفون عن الله سبحانه وتعالى الظلم، وينفون عنه القبائح، ونحن نقول: لا ظلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يعذب أحداً ولن يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه قال تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15] حتى على القول أن هذا في الدنيا، لكن قوله تعالى: ((رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا))[النساء:165] يكون في الدنيا والآخرة؛ فمن حكمة الله ورحمته عدله سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.
وقد مر هذا معنا في دليل الفطرة في آية الميثاق حيث قلنا: إن الله سبحانه وتعالى جعل الفطرة والعقل والميثاق الذي أخذه الله على عباده أدلة كافية بذاتها، على أنه حق، وأن الإيمان به واجب؛ قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ))[الأعراف:172] أو (ذرياتهم) على القراءة الأخرى: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] فالحجة قائمة، والعذر منقطع، والحق واضح جلي، بدليل الفطرة ودليل العقل؛ لكن -رحمةً من الله سبحانه وتعالى بالعباد- علق العذاب على أمرٍ زائدٍ على مجرد العقل والفطرة، وهو إرسال الرسل؛ ولهذا فإن الملائكة تحاج أهل النار بالرسل لا بالعقول؛ قال تعالى: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ))[الملك:8] وقال تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ))[الزمر:71] فالتقريع لهم من الملائكة إنما هو بإرسال الرسل؛ وهذا يؤكد أن أبلغ دليل وأعلى حجة هي إرسال الرسل، لأنهم بشر من جنس الخلق؛ فهم مثلهم يكلمونهم بما يفهمون؛ قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ))[إبراهيم:4] ويخاطبونهم بما يعقلون، ويردون الشبه شبهةً شبهةً، فهذا دليل السمع، وليس كل الناس يعقل دليل العقل.
لكن الكفار لم ينتفعوا بدليل السمع ولا بدليل العقل؛ قال الله تعالى عنهم: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10] فلا سمع ولا عقل، لم يعملوا بالوحي ولا بالفكر كليهما.
إن الله تعالى له الحجة البالغة، وليس لأحدٍ حجة على الله سبحانه وتعالى، وليس في إثبات قدر الله تعالى ونفاذ مشيئته: نسبته تعالى إلى الظلم، وإنما هذا من تخيلات المعتزلة .